*~*~*~*~*~*~*~*~*~*~*~*
فاروق جويدة
وعودة إلي الصفاء والبساطة - 2 -
*~*~*~*~*~*~*~*~*~*~*~*
نعود بعد ذلك كله الي عالم فاروق جويدة الشعري
وأول ما يجذبنا اليه هو الشعور بالغربة في عالم صعب
لا يعترف بالأحلام والمشاعر الانسانية البسيطة :
لقد كنت أعرف أني غريب
وأن زماني زمان عجيب
وأني سأنشد لحنا جميلا
وأدرك أني أغني لنفسي
وأني سأغرس حلما كبيرا
ويرحل عني .. وأشقي بيأسي
فماذا سأفعل يا أصدقاء ؟
إن مفردات " الاغتراب " و" الوحدة " وعدم القدرة علي الحوار مع الواقع
تملأ أشعار فاروق جويدة ، ولكن هذه المفردات لاتتردد في فراغ ،
فالشاعر يلمس في قصائده المختلفة أسرار هذا الاغتراب ،
ويعبر عنها في عديد من الصور الفنية المتنوعة التي تتكون منها
في مجموعها لوحة كبيرة ، ومن الملامح الرئيسية في هذه اللوحة
غياب عالم الطفولة والبراءة وعدم القدرة علي الاحتفاظ بهذا العالم الجميل
في ضجيج الحياة الصاخبة ، ولا يبقي أمام القلب إلا الحنين
الي هذه الطفولة الضائعة التي كانت تمنح الشاعر أمانا واحساسا
بجمال الحياة وعذوبتها بعيدا عن المخاوف والضغوط المتعددة .
تلك التي تقبض علي أيام الطفولة كما تقبض يد قاسية علي عصفور صغير :
الطفل يا أماه يسرع
نحو درب الأربعين
أتصدقين ؟
ما أرخص الأعمار
في سوق السنين
ما عدت أسمع أغنيات
كالتي كنا نغنيها ..
مازلت أذكر صوتك الحاني
يغني الليل ، يستجدي المني
أن تمنح الطفل الصغير
العمر والقلب السعيد
والعمر يا أمي ضنين
لكنني مازلت أحلم مثلما يوما
رأيتك تحلمين
ويشتد حنين الشاعر كلما حاصرته الأحزان الي عالم البراءة الأول ،
والي الطفولة الكامنة فيه ، لأن الطفولة هي الخلاص من الواقع المر ،
ومن حصار الهم والحزن ، ومن المخاوف الكثيرة التي تعتصر القلب
وتثير فيها فزعا شديدا من الحياة :
مازلت يا أماه أنتظر الوليد
رغم الضياع ورغم عنواني الطريد
إني أري عينيه خلف الليل
تبتسمان بالزمن السعيد
والأرض يعلو حملها
والناس تنتظر الوليد
وتمتد رؤية الشاعر من حنينه الي براءته وطفولته ،
لتخوض تجربة المدينة وقسوتها ، فهو مثل كثيرين غيره من شعراء جيله
وافد من عالم القرية الهاديء الذي لا يعرف الصخب والعنف ،
والذي لا يضيع فيه الانسان وسط الزحام والضجيج ، ولكن المدينة
تمد يديها القاسيتين لتجذب الشاعر الي دوامتها ، فتضيع صورة الأب
وملامحه ونصائحه التي حملها الشاعر معه من زاد القرية الطيبة :
قد قال لي يوما أبي :
إن جئت يا ولدي المدينة كالغريب
وغدوت تلعق من ثراها البؤس
في الليل الكئيب
قد تشتهي فيها الصديق أو الحبيب
إن صرت يا ولدي غريبا في الزحام
أو صارت الدنيا امتهانا.. في امتهان
إن ضاقت الدنيا عليك
فاحمل همومك في يديك
واذهب الي قبر الحسين
وهناك " صلي " .. ركعتين
* ملحوظة : هنا خطأ نحوي ، فالمفروض حذف الياء من فعل " صلي "
بحيث يكون " صل " ولكن الشاعر وضعها بين قوسين
لتبدو وكأنها كلمة عامية .
وفي المدينة يواجه شاعرنا صور الحياة القاسية ، وهو لا يحمل
في وجه القسوة سوي " وصفة أبيه " للتغلب علي الهم
والتي تتلخص في صلاة ركعتين في الحسين ، أو بعبارة أخري
في التمسك بالايمان أمام عواصف الحياة ، فماذا يجد الشاعر في مدينته ؟ :
وأتيت يوما للمدينة كالغريب
ورنين صوت أبي يهز مسامعي
وسط الضباب وفي الزحام
يهزني في مضجعي
ومدينتي الحيري ضباب في ضباب
..... ..... .....
أنفاسها كالقيد يعصف بالسجين
طرقاتها سوداء كالليل الحزين
أشجارها صفراء والدم في شوارعها يسيل
كم من دماء الناس
تنزف دون جرح أو طبيب
لا شيء فيك مدينتي غير الزحام
أحياؤنا .. سكنوا المقابر
قبل أن يأتي الرحيل
هربوا الي الموتي
أرادوا الصمت في دنيا الكلام
وينتهي هذا الصراع مع المدينة وصورها الجارحة للقلب البريء
بالنتيجة الطبيعية ، وهي هزيمة الانسان الحالم أمام الواقع المر :
لو كنت يا أبتاه مثلي
لعرفت كيف يضيع منا كل شيء
بالرغم منا .. قد نضيع
بالرغم منا .. قد نضيع
من يمنح الغرباء دفئا في الصقيع
من يجعل الغصن العقيم
يجيئ يوما بالربيع ؟
..... ..... .....
أبتاه
بالأمس عدت الي الحسين
صليت فيه الركعتين
بقيت همومي مثلما كانت
صارت همومي في المدينة
لاتذوب .. بركعتين
ويواصل الشاعر في كثير من قصائده رسم اللوحة الكاملة
التي تبدأ بضياع البراءة والطفولة وتصل الي ذروتها بالانسحاق
في واقع المدينة تحت حوافر الواقع القاسي الذي لا يرحم ،
ثم تكتمل اللوحة كلها بالتعبير عن فقدان الحب في المدينة ،
ففي أشعار فاروق جويدة تعبير متنوع عن الحب المفقود ،
فهذا اللون من الحب هو وتر أساسي يعزف عليه الشاعر أعذب أغانيه ،
وبذلك تكتمل اللوحة التي تبدأ بفقد البراءة والطفولة
وتنتهي بالحب الضائع المفقود ،
كل ذلك في اطار من الحنين المتلهف الي كل الأشياء الضائعة ،
فليس هناك انتصار علي أحزان المدينة و همومها القاسية
إلا باعادة ما ضاع من طفولة وبراءة وقدرة علي الحب .
ولابد من أن أشير بعد ذلك الي احدي قصائد الديوان الرائعة والنادرة
وهي قصيدة " ملعون يا سيف أخي " ، والتي تعبر عن الاهتمامات العامة
في شعر فاروق جويدة بعيدا عن الهموم الذاتية والأحزان الخاصة .
والقصيدة تصور تلك المأساة الفادحة التي تعرض لها الفلسطينيون
بعد حصار جماعة " أمل " للمخيمات الفلسطينية في لبنان ،
يقول الشاعر في المقطع الأول من هذه القصيدة :
لم آكل شيئا منذ بداية هذا العام
والجوع القاتل يأكلني
يتسلل ما في الأحشاء
يشطرني في كل الأرجاء
أرقب أشلائي في صمت
فأري الأشلاء .. هي الأشلاء
من منكم يمنحني فتوي باسم الاسلام
أن آكل ابني
ابني قد مات
قتلوه أمامي
قد سقط صريعا بين مخالب جوع لا يرحم
وبعد دقائق سوف أموت
ودماء صغيري شلال
يتدفق فوق الطرقات
أعطوني الفرصة كي أنجو من شبح الموت
لا شيء أمامي آكله لا شيء سواه .
ويواصل الشاعر في قصيدته الطويلة تصوير هذه المأساة
التي لم يعرف لها العصر مثيلا ، حيث كان الأحياء يأكلون الفئران والقطط
وجثث الموتي ، ويستخدم الشاعر موهبته المسرحية
في تصوير المواقف والشخصيات والصراعات الكامنة في هذه المأساة
تصويرا حيا بالغ التأثير.
تلك كلها بعض الملامح العامة لشاعرية فاروق جويدة ,
فنان الصفاء والبساطة والبعد عن التعقيد وصاحب التعبير السهل
عن أحاسيس الانسان وتجاربه المختلفة .
وإن كان لي أخيرا من شيء أهمس به في أذن الشاعر الموهوب
فهو أن يحذف من الطبعة القادمة لأعماله الكاملة قصيدته
" الي نهر فقد تمرده " ، ففي هذه القصيدة يبدو وكأن الشاعر
يتغني بالنيل ، ويطعن السد العالي الذي قيد مياه النيل
وأوقف تدفق الفيضان ، ورغم أن الشاعر لم يفصح عن هذا الموقف
بصورة مباشرة ، وهذه مهارة فنية منه ، فإن روح القصيدة
تشير الي موقف القصيدة ولا تخفيه ، وهو موقف غير عادل ،
ولا يقوم الشعر العظيم علي مواقف ظالمة ، فالسد العالي
أضاف بمياه النيل التي احتجزها أرضا جديدة للوادي الأخضر ،
وأعطي للصعيد ريا دائما ، بعد أن كان النيل يمر علي أرضه العطشي
فلا يعطيها من مائه إلا في أيام الفيضان ، أما بقية العام فالنيل فيه عابر
علي الصعيد لا يعبأ بأرضه ولا بأهله .
أيا كنت مخطئا في تفسير هذه القصيدة فليرشدني الشاعر الي الصواب .
والهمسة الثانية في أذن الشاعر الموهوب هي ضرورة اهتمامه
بما يمكن أن نسميه بعلم " الاقتصاد الأدبي " ذلك لأنه في عدد من قصائده ي
سترسل ويستسلم لتداعي الألفاظ والصور والأنغام مما يحرمه أحيانا
من التركيز والتكثيف واتاحة الفرصة لخيال القاريء لأن يعيش
مع ظلال القصيدة بدلا من أن يحرص الشاعر علي أن يقول كل شيء
ولا يبقي علي صغيرة أو كبيرة دون أن يعبر عنها ويصورها
بكل التفاصيل والجزئيات ، فالفن في جوهره ايحاء وتلميح ومشاركة
بين الشاعر وقارئه . ولو حذف الشاعر بعض أجزاء قصائده
التي تشرح وتفسر وتلح علي التفاصيل ، لكان ذلك تعميقا
لقوة تأثيره الفني، وفرصة أوسع للحركة أمام وجدان القاريء وخياله .
المقال من كتاب :
" ثلاثون عاما مع الشعر والشعراء "
*~*~*~*~*~*~*~*~*~*~*~*
ـــيــتــبـــعـــ